فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة القدر:
قوله جل ذكره:
بسم الله الرحمن الرحيم
{بسم الله} كلمة نحضر قلوب العلماء لتأمل الشواهد، وتسكر قولب العارفين إذا وردوا المشاهد، فهؤلاء أحضرهم فبصرهم، وعلى استدلالهم نصرهم.
وهؤلاء بشراب محابه أسكرهم، وفي شهود جلاله حيرهم.
قوله جلّ ذكره: {إنَّآ أَنزَلْنَاهُ في ليلة القدر}.
في ليلةٍ قَدَّرَ فيها الرحمةَ لأوليائه، في ليلةٍ يجد فيها العابدون قَدْرَ نفوسِهم، ويشهد فيهَا العارفون قَدْرَ معبودهم..وشتان بين وجودِ قَدْرٍ وشهودِ قَدْرٍ! فلهؤلاء وجودُ قَدْرٍ ولكن قدر أنفسهم، ولهؤلاء شهود قدرٍ ولكن قدر معبودهم.
{وَمَآ أَدْرَاكَ ما ليلة القدر}.
استفهامٌ على جهة التفخيم لشأن تلك الليلة.
{ليلة القدر خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر}.
أي: هي خيرٌ من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر. هي ليلةٌ قصيرةٌ على الأحباب لأنهم فيها في مسَأمرةٍ وخطاب..كما قيل:
يا ليلة من ليالي الدهرِ ** قابلت فيها بَدْرَها بِبَدْرِ

ولم تكن عن شَفَقٍ وفَجْرٍ ** حتى تولّت وهي بَكْرُ الدهرِ

قوله جلّ ذكره: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أمر سَلاَمٌ هي حَتَّى مَطْلَعِ الفجر}.
{وَالرُّوحُ فِيهَا}: قيل جبريل.
وقيل: مَلَكُ عظيم.
{بِإِذْنِ رَبِّهِم}: أي بأمر ربهم.
{مِّن كُلِّ أمر سَلاَمٌ}: أي مع كل مأمورٍ منهم سلامي عَلَى أوليائي.
{هي حَتَّى مَطْلَعِ الفجر}: أي هي باقية إلى أن يطلع الفجر. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ ليلة القدر:
قوله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر} إلَى قوله: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر}.
قِيلَ: إنَّمَا هِيَ خَيْرٌ مِنْ ألف شهر لَيْسَ فِيهَا ليلة القدر، وَذَلِكَ لِمَا يُقْسَمُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي ألف شهر، فَكَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ ألف شهر لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنَّمَا وَجْهُ تَفْضِيلِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالنَّفْعِ الْكَثِيرِ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ليلة القدر مَتَى تَكُونُ، وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِيهَا، فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر وَاطْلُبُوهَا فِي كُلِّ وَتْرٍ».
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةُ تِسْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْلَةُ إحدى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ».
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «تَحَرُّوا ليلة القدر فِي السَّبْعِ الْأواخر.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال: فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ»
.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قال: أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زنجويه النَّسَائِيُّ قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قال: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قال: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ ليلة القدر، فَقال: هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ قالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قال: قلت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ ليلة القدر يَا أَبَا الْمُنْذِرِ فَإِنَّ صَاحِبَنَا- يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ- سُئِلَ عَنْهَا فَقال: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا؛ فَقال رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يَتَّكِلُوا، وَاَللَّهِ إنَّهَا فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، فَتَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِهَا وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي الْعَشْرِ الْأواخر مِنْ رَمَضَانَ وَفِي سَنَةٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ وَفِي سَنَةٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَفِي سَنَةٍ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ مَسْعُودٍ: (مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْهَا) إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ؛ إذْ لَا يعلم ذَلِكَ إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ليلة القدر غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِشَهْرٍ مِنْ السَّنَةِ وَأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، وَلِذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قال لِامرأته: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ليلة القدر: إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَمْضِيَ حَوْلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِوَقْتٍ فَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ حَوْلٍ. آخِرُ السُّورَةِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة القدر فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الأولى قوله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر}: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَقِسْمِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَمَدِ الْأَقْصَى مَعْنَى النُّزُولِ فِي القرآن، وَأَنَّ الْمَلِكَ عَلِمَهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنْهَاهُ فِي السُّفْلِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى عَنْ الْحِسِّ إلَى الْعَقْلِ؛ إذْ الْمَحْسُوسُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْقول هُوَ الرُّتَبُ عَلَيْهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
فِي تَمْيِيزِ الْمُنَزَّلِ، وَهُوَ القرآن، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ الْعِلْمُ، قال اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ، كَمَا قال تَعَالَى فِيهِ: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله: {فِي لَيْلَةِ} قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ القرآن نَزَلَ لَيْلًا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي رَمَضَانَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن}، وَأَنْزَلَهُ مِنْ الشَّهْرِ فِي الليلةِ الْمُبَارَكَةِ ليلة القدر.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله: {ليلة القدر} قِيلَ: لَيْلَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ.
وَقِيلَ: لَيْلَةُ التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ.
وَهُوَ أَقْرَبُ لِقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ} وَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ.
وَمِنْ شَرَفِهَا نُزُولُ القرآن فِيهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَمِنْ شَرَفِهَا بَرَكَتُهَا وَسَلَامَتُهَا الَّتِي يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهَا.
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَبَّرَ الْحَوَادِثَ وَالْكَوَائِنَ قَبْلَ خلقهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَعَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا بِغَيْرِ أَمَدٍ؛ وَمِنْ جَهَالَةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قالوا: إنَّ السَّفَرَةَ أَلْقَتْهُ إلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَلْقَاهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً.
وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ اللَّهِ وَاسِطَةٌ.
وَلَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَاسِطَةٌ.
قال عُلَمَاؤُنَا: فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ فِي ليلة القدر كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْمَصَائِبِ، وَمَا يُقَسَّمُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْمَطَرِ وَالرِّزْقِ، حَتَّى يَكْتُبَ فُلَانٌ يَحُجُّ فِي الْعَامِ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ.
وَقال آخَرُونَ: يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، فَقَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسَخَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ ليلة القدر إلَى مِثْلِهَا، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَنْكِحُ النِّسَاءَ، وَيَغْرِسُ الْغُرُوسَ، وَاسْمُهُ فِي الْأَمْوَاتِ مَكْتُوبٌ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قوله تَعَالَى: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر}:
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
فِي سَبَبِ هِبَتِهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الأول: أَنَّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّك.
الثَّانِي أَنَّهُ «ذَكَرَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَقال: عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا، وَحِزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَعَجِبَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقال: يَا مُحَمَّدُ، عَجِبَتْ أُمَّتُك مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قرأ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر} وَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْت أَنْتَ وَأُمَّتُك مِنْهُ. قال: فَسُرَّ بِذَلِكَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم».
الثَّالِثُ: قال مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ: سَمِعْت مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقول: «إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ليلة القدر، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ ألف شهر».
قال الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ هُوَ الأول: أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ، وَلَقَدْ أُعْطِيت أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَمْ تُعْطَهُ أُمَّةٌ فِي طُولِ عُمُرِهَا، فَأَوَّلُهَا أَنْ كُتِبَ لَهَا خَمْسُونَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَكُتِبَ لَهَا صَوْمُ سَنَةٍ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، بَلْ صَوْمُ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الصَّحِيحِ، «وَطُهِّرَ مَالُهَا بِرُبْعِ الْعُشْرِ، وَأُعْطِيَتْ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قرأهَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ يَعْنِي عَنْ قِيَامِ الليل، وَكُتِبَ لَهَا أَنَّ مَنْ صلى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ صلى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ».
فَهَذِهِ لَيْلَةٌ وَنِصْفٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ.
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطُوا ليلة القدر الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ ألف شهر؛ وَهَذَا فَضْلٌ لَا يُوَازِيهِ فَضْلٌ، وَمِنَّةٌ لَا يُقَابِلُهَا شُكْرٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ فِيهَا قول رَابِعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ غَيْلَانَ حَدَّثَهُ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قال: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قال: قَامَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بن علي بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقال: سَوَّدْت وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقال: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَك اللَّهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر وَمَا أَدْرَاك ما ليلة القدر ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} يَمْلِكُهَا بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ، قال الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفٌ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله تَعَالَى: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} لَيْسَ فِيهَا ليلة القدر فِي قول الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا، وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا قول النُّحَاةِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِخْوَةِ، يُرِيدُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا تَدْقِيقٌ لَا يَئُولُ إلَى تَحْقِيقٍ.
أَما ليلة القدر فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ ألف شهر، فِيهَا ليلة القدر، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرًا مِنْ ألف شهر هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَإِذَا عَمَّرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَامًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِليلة القدر ألف شهر فِيهَا ليلة القدر، وَلَا يَكْتُبُ لَهُ ليلة القدر، وَألف شهر زَائِدًا عَلَيْهَا، وَرُكِّبَ عَلَى هَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْوَامِ.
وَأَمَّا قولهمْ: زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ فَهَذَا تَجَوُّزٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ سَحَبَتْ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ ذَيْلَ الْغَلَطِ، وَأَجْرَتْهُ عَلَى مَسَاقِ الْجَوَازِ فِي النُّطْقِ، فَإِنَّهَا تَقول الِاثْنَانِ نِصْفُ الْأَرْبَعَةِ؛ تتجَوَّزُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ.
وَتَحْقِيقُ الْقول فِي نِسْبَتِهَا لِشَيْءٍ تَرَكَّبَ مِثْلُهُ، وَفِي قولهمْ: الواحد ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ شَيْءٌ تَرَكَّبَ مِثْلَيْهِ، وَهَكَذَا إلَى آخِرِ النَّسَبِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تتحَاشَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنْظُومٌ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ؛ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قوله تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر}:
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قوله تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ}، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَاهُنَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلَ إنَّ ليلة القدر سَلَامَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَحْدُثُ فِيهَا حَدَثٌ، وَلَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ.
الثَّانِي إنَّ ليلة القدر هِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ.
الثَّالِثَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتُسَلِّمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي ليلة القدر إلَى مَطْلَعِ الفجر؛ قالهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا كَانَ مَصْدَرًا أَوْ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ؛ بِخِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْلَامِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ بِالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {هِيَ} نَزَعَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا حُرُوفَ السُّورَةِ، فَلَمَّا بَلَغُوا إلَى قوله: {هِيَ} وَجَدُوهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا، فَحَكَمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ أمر بَيِّنٌ، وَعَلَى النَّظَرِ بَعْدَ التَّفَطُّنِ لَهُ هَيِّنٌ، وَلَا يَهْتَدِي لَهُ إلَّا مَنْ كَانَ صَادِقَ الْفِكْرِ، شَدِيدَ الْعِبْرَةِ، وَقَدْ أَشْبَعْت الْقول فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَلُبَابُهُ اللَّائِقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيرِهَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ قولا: الْأَوَّلُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ.
سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ليلة القدر؛ فَقال: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ ليلة القدر.
الثَّانِي أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ؛ قالهُ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَدَا مَا سَمَّيْنَاه.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ؛ قالهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
الرَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحدى وَعِشْرِينَ.
الْخَامِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
السَّادِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
السَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
الثَّامِنُ أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.
التَّاسِعُ أَنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ لِلْأَفْرَادِ الْخَمْسَةِ؛ فَإِذَا أَضَفْتهَا إلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَقْوَالِ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَ قولا، أُصُولُهَا هَذِهِ التِّسْعَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا.
تَوْجِيهُ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتُهَا: أَمَّا قول ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ، فَنَزَعَ إلَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ شَرْعًا، مُخْبَرٌ عَنْهَا قَطْعًا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِتَوْقِيتِهَا دَلِيلٌ، فَبَقِيَتْ مُتَرقبة فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، وَقَدْ رَآهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ فِقْهِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ يَطْلُبُهَا، وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأواخر»، وَلَوْ كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِجُزْءٍ مِنْهُ مَا تَقَلَّبَ فِي جَمِيعِهِ يَطْلُبُهَا فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ نَزَعَ بِقوله تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَأَمَّا قول مَنْ قال: إنَّهَا إحدى وَعِشْرِينَ فَمُعَوَّلُهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: «كَانَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُجَاوِزُ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، ثُمَّ قال: إنِّي أُوتِيت، وَقِيلَ لِي: إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر، وَإِنِّي رَأَيْتهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَكَأَنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ. فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إحدى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ صلى الصُّبْحَ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ، وَوَكَفَ الْمَسْجِدُ؛ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَأَرْنَبَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا أَثَرُ الطِّينِ وَالْمَاءِ».
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَلِوجهين:
أحدهما: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُ فِيهَا إلَيْك. فَقال لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ.
قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَرَأَيْته فِي صَبِيحَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَجَدَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم»
.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى»، زَادَ النَّسَائِيّ عَلَى مُسْلِمٍ «أَوْ ثُلُثِ آخِرِ لَيْلَةٍ».
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، «قال زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: سَأَلْت أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْت: إنَّ أَخَاك ابْنَ مَسْعُودٍ يَقول: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ ليلة القدر. فَقال رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ أَلَّا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقول ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ فَقال: بِالْعَلَامَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَفِي الشَّمْسِ مِنْ صَبِيحَتِهَا أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا».
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَنَزَعَ بِحَدِيثِ النَّسَائِيّ الْمُتَقَدِّمِ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ فَنَزَعَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: «اعْتَكَفَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلْتَمِسُ ليلة القدر قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا أنقضيْنَ أمر بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر، فَأمر بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّهُ كَانَتْ أُبِينَتْ لِي ليلة القدر، وَإِنِّي خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنَسِيتهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
قال أَبُو نَضْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ: قُلْت لِأَبِي سَعِيدٍ: إنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا.
قال: أَجَلْ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ.
قال: فَقُلْت: فَمَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قال: إذَا مَضَتْ واحدة وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، وَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، وَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الْخَامِسَةُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
فِي الصَّحِيحِ فِيهَا وَتَرْجِيحِ سُبُلِ النَّظَرِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْحَقِّ مِنْهَا: وَذَلِكَ أَنَّا نَقول: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قال: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} فَأَفَادَ هَذَا بِمُطْلَقِهِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامٌ سِوَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ لِقوله تعالى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر} فَأَنْبَأَنَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ الْعَامِ.
فَقُلْنَا: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ ليلة القدر، ثُمَّ نَظَرْنَا إلَى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فَأَفَادَنَا ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الليلةَ هِيَ لَيْلَةٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّ القرآن أُنْزِلَ فِيهَا، فَقُلْنَا: مَنْ يَقُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ يُصِبْ ليلة القدر، وَقَدْ طَلَبَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِهِ وَفِي أَوْسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ رَجَاءَ الْحُصُولِ.
وَقال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ وَلَمْ يَعُمَّهُ بِالطَّلَبِ لِمَا كَانَ يَظُنُّهُ مِنْ التَّخْصِيصِ، وَرَجَاءَ أَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، ثُمَّ أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهَا، فَخَرَجَ لِيُخْبِرَ بِهَا فَأُنْسِيَهَا لِشُغْلِهِ مَعَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، لَكِنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أُخْبِرَ بِهِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر، ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر.
وَتَوَاطَأَتْ رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر، كَمَا قال هُوَ صلى الله عليه وسلم وَاقْتَضَتْ رُؤْيَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأواخر مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي لَيْلَةِ إحدى وَعِشْرِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ ثُمَّ أَنْبَأَ عَنْهَا بِعَلَامَةٍ، وَهِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا يَعْنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَنْوَارِ فِي تِلْكَ الليلةِ، فَوَجَدَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ نَصْلُحْ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ النُّورِ لِكَثْرَةِ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ رَآهَا أحد مِنْ الْمُذْنِبِينَ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ وَنِقْمَةٌ مِنْهُ إنْ بَقِيَ كَمَا كَانَ، ثُمَّ خَصَّ السَّبْعَ الْأواخر مِنْ جُمْلَةِ الشَّهْرِ، فَحَثَّ عَلَى الْتِمَاسِهَا فِيهَا، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الْحَقِّ لَيْلَةَ إحدى وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الصِّدْقِ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ الْحَقِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي الْأَعْوَامِ، لِتَعُمَّ بَرَكَتُهَا مِنْ الْعَشْرِ الْأواخر جَمِيعَ الْأَيَّامِ، وَخَبَّأَهَا عَنْ التَّعْيِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْرَكَ عَلَى الْأُمَّةِ فِي الْقِيَامِ فِي طَلَبِهَا شَهْرًا أَوْ أَيَّامًا، فَيَحْصُلُ مَعَ ليلة القدر ثَوَابُ غَيْرِهَا، كَمَا خَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاه.
فَهَذِهِ سُبُلُ النَّظَرِ الْمُجْتَمِعَةُ فِي القرآن وَالْحَدِيثِ أَجْمَعُ، فَتَبَصَّرُوهَا لَمَمًا، وَاسْلُكُوهَا أُمَمًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
المسألة الرَّابِعَةُ:
مَنْ قال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ليلة القدر وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَتِمَّ الْعَامُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ليلة القدر فِي الْعَامِ، فَلَا يَبْطُلُ يَقِينُ النِّكَاحِ بِالشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا مِنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ.
الثَّانِي إذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْآثَارِ؛ وَلَا يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُهَا إلَّا بِدُخُولِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَلَا يَقَعُ يَقِينُ الْفِرَاقِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ يَقِينُ النِّكَاحِ إلَّا حِينَئِذٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي حِينِ قوله ذَلِكَ قالهُ مَالِكٌ وَلَيْسَ مَبْنِيا علي الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ؛ فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَلِّقْ قَطُّ بِشَكٍّ، وَلَا يَرْفَعُ الشَّكُّ عِنْدَهُ الْيَقِينَ بِحَالٍ.
وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا تَطْلُقُ عِنْدَ مَالِكٍ بِأَنَّ مَنْ علق طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى أَجَلٍ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ لَا تَقْبَلُ تَأْقِيتًا؛ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الْعُلَمَاءُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ.
وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جُزْءٍ مُنْفَرِدٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هَاهُنَا. اهـ.